وفجاءةً ينسلُّ من أوقاتنا خبرٌ
يسوِّرنا على دنيا الحصارِ،
ويرسمُ الآهاتِ في أنفاسنا صوراً،
ويأخذُنا إلى بئرٍ تضيقُ بنا،
نصيرُ كأننا أسرى لذاكرةِ الهروبِ
إلى مدائنَ لا نريدُ ولا تريدُ،
كأنَّ أخبارَ الشجار تجمّعُ الأغراضَ
تنصبُ في العراءِ ثيابنا
لنكونَ في دنيا الغياب
نرصّعُ الناياتِ يومياًَ
بحالات الحنان
لكنّ أُمي أومأت للدربِ
فافتتحتْ مساراتُ الطريقِ أمامنا
سنقومُ في صبحِ الأذان برحلةٍ
نحو الجبالِ لبيتِ جدِّك في الأعالي،
حيث تحسدهُ الطيورُ على غطاءِ سريره،
حيث الطبيعةُ تفتحُ الشرفاتِ نحو فضائها
فتشمُّ طيفَ الروحِ في أحواله صبحاً
تفكُّ السرَّ عن قمرٍ يخبئ ليلَ ظلمته
على دربٍ، فيجتمعُ المحبُّ مع الحبيبة،
يهمسانِ وينسيان الدربَ في لغةِ الأصابعِ
حيثُ تنسى الروحُ أحوالَ المكانْ.
فرأيتُ في حلمي مرايا الدفتر ِالمغبرِّ
يرسمُ للمكان حدوده،
ورأيتُ غيمةَ سندباد البرِّ تأخذني،
لأسرجَ خيلَ أوهامي
على خطو الزمانْ.
ورحلتُ صبحاً قد تلوّنَ \"بالعَجاج\"
ولامستْ عيناهُ بعضَ الزرعِ يرتجلُ
الأغاني للقطا،
وأنا ودربُ الأهل في صمتٍ،
وكلٌّ يرسمُ المنفى بأغنيةٍ،
نوزّعُ سرَّها فوقَ العيون،
وغفوةً تدني طواحينَ التذكّرِ من
حضورِ الناي في الأشواقِ
حتى ضاقَ بي جسدي
فرحتُ أُسلّمُ الذكرى لأطرافِ اللسانْ
لكنّهم كانوا كمنْ راحتْ أصابعُه
تقرّي لوعةَ الصبّار مهموماً على
ما أودعتْ روحُ الزمان بظلّه يوماً،
فهاجرَ في الكمنجة، نحو لحنٍ يُكملُ المنفى
رسائلَه على مهلٍ،
ويممَّ وجَهه شطرَ الأغاني ترسمُ
الأحلامَ في لونٍ الدنانْ.
لكنني حين انتبهتُ إلى الفراتِ
رأيت أيامي على موجِ المياهِ بدورةٍ،
ورأيتُ ما قدْ يكتبُ الغياب سراً
في قصائدهم على سفرِ الدخانْ.
ورأيتُ كيفَ ركضتُ نحوَ الماءِ،
أجمعُ في يدي بعضَ الحضورِ،
وكيفَ أغرف ملءَ روحي دامعاً ومودعاً
لكنني حينَ ابتعدتُ بكى بقلبي ذلك الولد الذي زرع
السنابلَ في الممرَّ إلى الحياةْ
فرجعتُ من شوقٍ لأغرفَ مرةً أخرى
وعاشرةً، لعلي في حضور الماء
أسكنُ روحَ سنبلةٍ
واستهدي كآثارِ القطاةْ.
وأنا على كلِّ البلادِ، أصيخُ دربَ السمعِ
موجوعاً، فأسمع نهري المسكون في
روحي، وقد صهلتْ موانئهُ على دربي
يسابقُ في الحنينِ مرافئَ الذكرى،
ويتركُ في ممرِّ الدمعِ أوجاعَ البيانْ
في الدرب، ما انحسرتْ غيومٌ
عن سماءٍ، توشكُ الآنَ الهبوطَ
على الطريقِ، فيرتدي صوتي أقاصي
الخوفَ أثواباً، وأعلنُ أنني في حيرةٍ
أخرى، وأني بانتظار البيت كي
أرمي على جدرانه خوفَ الحقولِ من
الصقيع، ومن بقايا الملحِ في جسدي،
يؤرقُ فيَّ إغفاءً، كفخارٍ ينزُ الماءَ
في تعبٍ، فأسألُ ما تبقى في الطريقِ؟
يروح صوتي في الهباء، وينثني فوقَ
النعاسِ، على إشارات البنانْ.
وتصاعدتُ أصواتُ أولادٍ
يزفون القدومَ بنظرةِ الغرباءِ
تبحث في مداراتِ السؤال عن العيونِ
تقولُ دهشتُها كلاماً غامضاً،
حتى حسبتُ بأنني قد صرتُ أسئلةً
تُداور في الممرِّ، تكونُ دربَ الامتحانْ
ما كنتُ أعرفُ بعدُ من عاداتهم شيئاً
لأسكنَ خوفَ ضلعي
كالمساءِ يداعبُ القططَ الصغيرةَ
ثم يهجرها على صوتِ الهسيسِ،
وغفوةٍ فوقَ الوسائدِ
تعتلي ليلَ التذكّرِ، ثم تغرضُ روحَها
بدمِ الشرود وبعض أحلامِ الرهانْ
ما كنت أعرفُ أن في زييّ طريقاً للضحكْ
ولدٌ صغيرٌ يلبسُ \"القنباز\" في زي
الكبار، وقد تحرّق لونُه بدمِ الشموسِ
وأجهشتْ عيناه من بَرْدٍ،
يدوِّر رأسَهُ فوقَ الجبال،
كما نوافذ لوّحتْ يومَ الرحيلِ،
ولم تنشَّفْ دمعَها، فجرى ليسقي
جنةَ الذكرى، ويبني فوقها حلمَ الكيانْ
وبدأتُ أدرس كي أُرمّمَ غربتي،
وأسابق الأيامَ، كالطير، المهاجرِ
حينَ ينأى عن مدارِ فضائه،
فيقاسُم الساعات خبزَ فجائعٍ
يرمي إليها صوتَه في ظلمةِ
الضجرِ الذي قد صارَ ميزانَ الأوانْ
حتى إذا مرّتْ لياليه الكئيبةُ
وانتظارٌ قاتلٌ فوقَ الحروفْ
صارتْ موانئه على جرفِ السدودِ،
يطيلُ فيها صبَره قهراً
ليُوقَدَ مثلَ بخّور الكنائسِ
فوقَ أسماءِ الكسوفْ
وأنا على بابِ الجفافِ
وبعدَ ستين المعارك
في ممر عطورها،
أدني سماءً كي تلامسَ ما أنختُ
ظلالَه يوماً هنا
فأنا أضيءُ الصبحَ من صوتِ التذكّر،
من حليبِ الجدّةِ العجفاءِ، تسكبهُ
على مهل، تقولَ له: تمهّلْ
فالمسافةً دربنُا نحو الكلامِ
نطيّرُ الأحلامَ في أسرابهِ،
كي يرتدي هذا المساءُ جمالَه
ويكونُ صوتُ الروحِ في تلكِ الدنانْ
وأنا على بابِ الجفافٍِ
أساكنُ البيتَ الذي ما عادَ بيتاً،
بل تآكلَ في المياهِ وسدّتِ الأمواجُ
آلافَ الأماني باكراً،
ليكون أغنيةً تطيرُها،
إلى أوقاتِنا حينَ المساءُ
يغلقُ الآجرَ في دمنا،
وينكسرُ الكيانْ
مازلتْ حتى الآنَ
أجلسُ مفرداً تحتَ الشجيراتِ الصغيرةِ
قربَ \"غرّافِ\" الفراتِ
تكدّسُ الأيامُ رحلتها
وتأخذني لدمعِ تحتمي في ظلّه
كلُّ المرايا، ثم يزهرُ شاطئُ الترحالِ
مرسوماً على أُفقِ الحسانْ
ما زلتُ في نعشي أماشي الغيمَ
نحوَ الشرقِ، أفتحُ جرحَه قمراً
ويعتذر الصبيُّ بداخلي، لطفولةٍ ما زلتُ
أحبسُها بصدرِ الناي حين يمرُّ قربَ دمي
وفي صوتِ الكمنجةِ، يومَ ترمي
شوقها عتباً على صوتِ اليمامْ
لأكونَ منذوراً لضحكتها
على صمتِ الرسائلِ في عيونِ اللونِ،
فوقَ الوجهِ،
ما تركَ التأوهُ في الكلامْ
ما زلتُ حينَ يمرُّ سربٌ من طيورِ الفجرِ،
أصحبه إلى حلمي
وأودعُ في جناحيه حروفَ الدفترِ الأوّلْ
وشيئاً من دموعِ قد تطرِّز
دربَه فوقَ الغمام
وقد غدا مَخْمَلْ