عيناكِ غاباتُ النّخيلِ
تَمِيسُ في عَبَثِ الحرائقِ
تسفعُ الشَّعرَ المزيَّنَ بالرُّطَبْ
أو وجهُ (بدرٍ)(1)
حين يشتعلُ الحنينُ إلى تفاصيلِ الشَّناشِيلِ البعيدهْ
أو فزعةُ الحَجَلِ المحاصرِ عند قاتِلَةِ المياهِ
عيناكِ فاتحةُ المراثي,
ليلُ أهوارِ الجنوبِ,
غناءُ نوتيٍّ وحيدٍ تاهَ في غَبَشِ القصبْ
أحزانُ دجلةَ والفراتِ
على مَصَبِّ الموتِ في ملحِ الخليج
وجعُ المقاماتِ التي ناحتْ دهوراً في سهوبِ الرافدين
عيناكِ خاتمةُ النشيدِ
وشهقةُ الولدِ الشريدِ
وليلةَ انكسرَ الرشيدُ
وضاعَ في الشطِّ العربْ
م 2
أَشْرَعْتُ باصرةَ الطفولةِ
ساحَ في القلبِ العراقُ
المنُّ والسلوى وشهدٌ من أَفانينِ الرطبْ
فَيْضٌ من الغزلانِ
يصعدُ بينَ باديةِ السًَّماوَةِ وابتهالاتِ القصبْ
وأنا الشهيقُ على بُراقِ الروحِ
تأخذني المواجدُ كلَّ حلمٍ نحوهُ
اِهبطْ سلاماً آمناً
اِهبطْ فقد تعبَ البراقُ
م 3
يا نوحُ... أينَ رسوتَ؟
إني لا أرى نخلاً ولا رُقُماً تضوءُ
زاقورةً تهدي المتيّمَ بيتَ مَنْ يهوى،
وإني لا أرى أبوابَ بابلَ باسماتٍ للغريبِ،
ولا أرى بستانَ سومرَ،
لا أرى سربَ الغزالاتِ اللواتي كنَّ يرعينَ القلوبَ،
ولا أرى أسرابَ ربّاتِ النشيدِ
ولا أحسُّ غناءَهُنَّ العذبَ
يصدحُ في معابدِ نينوى.
يا نوحُ...
كيف توجّهتْ هذي السفينةُ في اليبابِ
هل كنتَ تبحرُ بالجموعِ من الخرابِ إلى الخرابِ؟
م 4
وقعتْ رؤوسُ السادرينَ على الكؤوسِ،
وأخلدوا للخمرِ في حانِ البلدْ
سقطَ النذيرُ على الكؤوسِ مدوّياً:
قُمْ يا مُضَيَّعُ، إنّه الطوفانُ
فادفعْ ما استطعتَ عن الصغارِ.
همسَ المضيّعُ ذاهلاً:
اُسكبْ قليلاً من زَبَدْ.
ذُعِرَ النذيرُ، وناحَ في جمع العبادِ الذاهلينْ
قال: السلامُ على البلدْ
قلت: السلامُ على الولدْ.
م 5
نقفورُ عادَ إلى الثغورِ(2)
ولم يكنْ جيشُ الرشيدِ
هجروا العواصمَ والحصونَ,
وأوصدوا بابَ القصورِ
الدارُ آمنةٌ
وأسرابُ الجواري
يَلْقَيْنَ فرسانَ المشاهدِ بالمعازفِ والبخورِ
نقفورُ يدخل آمناً دارَ السلام
نقفورُ لا يلقى سوى جندٍ ينام
هَبَّ الأمينُ الأوحدُ المخمورُ من نوم ثقيلِ
كان الفرنجُ يعربدونَ بساحةِ البلدِ القتيلِ
صرخَ الأمينُ بثلةِ الحرسِ الرئاسيّ القديمِ:
سدّوا الثُّغورَ وأرْتجوا بابَ الإمارهْ
سّدوا مغاليقَ البلدْ.
فرّ الجميعُ،
ولم يجبهُ سوى صداهُ
وهوى.. بحبلٍ من مَسَدْ.
م6
حَتَّامَ يأخذنا العماءُ إلى دياجيرِ الرغائبِ
واحدٌ أحدٌ,
يسوقُ أمامَه وَهْمَ القطيعِ,
ليبتني ملكاً،
تؤسَّسهُ المخاوفُ والدموعُ؟
حتّامَ تأخذنا مرايانا الخؤونةُ في مداراتِ الجنونِ
حَتّامَ نغرقُ في التفرُّدِ,
لا نرى أحداً سوانا
نطفو ونغرقُ في بذاءات من الوهمِ المضخّمِ
بالأماديح الكذوبةِ والظنونِ؟
المالكُ القدُّوسُ مبتهجٌ بصيحاتِ الرعاعِ الهائجين:
بدمائنا نفدي العظيمْ
أرواحُنا تفدي الأحدْ
صاحَ الضّريرُ:
جحافلُ الإفرنجِ يا مولايَ تجتاحُ الإمارهْ.
سقطَ القناعُ،
ولم يكنْ في السّاح من أحدٍ سواهُ
فهوى العظيمُ إلى الجحيم
ونهضتَ وحدكَ يا عراقُ
تضمّدُ الجرحَ القديم.
م 7
في الكَرْخِ ضَيَّعني الطريقُ إلى أحبائي(3)
وأتلفني البكاءُ
كان الطريقُ يضيقُ ثم يضيقُ مُختنقاً بأشلاءِ الطفولهْ
رُقُمٍ تشظّيها الحرائقُ تستريحُ إلى جَديلهْ
أسطورةِ الخلقِ العظيمِ وأبجديّات قتيلهْ
وحدائقٍ تاهتْ طويلاً فوق أجرام السماءْ
في الكرخِ أتلفني البكاءْ
وقرأتُ خاتمةَ العواصمِ،
ثم أدركتُ العماءْ
أنا شاهدٌ أعمى
وعينُ القلبِ تشهدُ
أنّ حُكّامَ الطوائفِ يسقطونْ
يتسابقون إلى بلاطِ (الأبيضِ الكوني) أمواتاً(4)
وينفجرُ الجنون
في الكرخِ أتلفني الحنين
لملَمتُ من بين الخرائبِ من عرفتُ
لململتُ ذاهلةَ الرسائلِ,
أدمعَ العشاقِ,
بعضي،
رَجْعَ أضلاعي،
وبعضي قد تماهى بالشّناشيلِ المُغَلَّقةِ الوحيدهْ
لملمتُ بعضَ عِتابهم وعَذابهم
لملمتُ أوزانَ الخليل، وحكمةَ الشيخِ الرئيسِ،
وعودَ زريابَ الممزّقِ بالتنّهدِ والمقاماتِ الحزينهْ
لملمتُ عاصمة الرشيدِ,
مسحتُ غاشيةَ الدماءِ،
فأسفرتْ مِزَقاً وصايا كربلاءْ.
للمبتدا خبرٌ
تقدّمَ أو تأخرَ
ظاهراً أو مضمراً
لكنّه.. للمبتدا خبرٌ تكوَّنَ منذُ فاتحةِ الوجودِ
بغدادُ..
تنهضُ من خرائبها
وتصدحُ بالنشيدِ
بغدادُ
تبدأ رحلةَ الحلمِ الجديدِ.