في القلب أجراسٌ ترنُّ
فيختفي حزنٌ
وتنهضُ في فضاءِ الرّوحِ، ترقصُ زَغرداتٌ
حين تأتيه الإشارةْ
أو حين تنسابُ الرسائلُ ذاهلاتٍ تحتَ قوسِ البابِ
يحملها صبيٌّ أسودُ العينين
تمنحه البراءةُ سرَّ قُدرتها
فيدخلُ بالأمان
ما كان يحفلُ بازورارِ أخٍ ولا غضبٍ رقيبِ
أخفى تَجَهُّمَهُ وراءَ كآبةِ البابِ الذي
قُدَّتْ حجارتُه من الوَعْرِ الكئيبِ
أو حين تشهقُ طفلةٌ
أُخِذَتْ بآلام التّولُّهِ بَغْتَةً
أيّانَ لوّح فوق شُرفتها المنيعةِ مُدْنَفٌ، طفلٌ، محبُّ
وضعتْ على الكبد المصدّع بعضَ كفيّها
وألقتْ بعضها فوق الشفاهِ
وتباعد الكرزُ العقيقُ باهةٍ
ساحَ الحريقُ
فأيقظَ الوردَ المندّى فوقَ خدّيها
وأوقعها الدُّوارُ.
نهضتْ بصحنِ الدار عجلى
فُسْقِيَّةٌ شامّيةُ الألوانِ
هبّ الياسمينُ الغضّ مأخوذاً
وغامَتْ مَشْربيّهْ
خَدَرٌ لذيذٌ كان يفعل فعلَه السّريَّ في روحِ المكانِ.
للحبّ حالاتٌ، علاماتٌ، ينوء بحملها جبلٌ
ويكتمها المحبُّ
لا بأسَ من بعض التحرُّز
فالهوى مُتكتمٌ والوصلُ صعبُ
ما أنتَ أوّلَ عاشقٍ أَرْداهُ قلبُ.
ـ 2 ـ
في العقلِ ناقوسٌ يئنُّ
فتختفي مدنٌ، بلادٌ،
ثم ينهض في جحيم الصدرِ طوفانٌ من الأمواتِ
والشجرِ المحمّلِ بالثمار المالحاتِ.
وعلى الغصونِ الكالحاتِ تكوّمتْ
أسرابُ دوريّ جفولٍ
يدفع الرأسَ المعرَّى تحتَ قادِمَةِ الجناحِ،
وذاكَ شحرورٌ تفرّدَ، أو توحّد،
أو قدِ اعتزلَ الجميعَ مفارقاً،
بومٌ يهلّلُ مُنذراً بهلاكِ هذا الكوكبِ العاصي، المواتِ.
الأرضُ زلزلةٌ،
وتُخرجُ ما تزاحمَ تحتَ سُرَّتها من الأثقالِ،
تنطمسُ الجهاتُ.
يعمى الجميعُ، وتفقدُ الأنهار سيرتها
وينكفئ الفراتُ.
يتربّع الموتُ الغشومُ على خرائبنا
وتنطفئ الحياةُ.
يا نوحُ....
واحملْ فوق فُلككَ عاشقين وعاشقين وعاشقينِ
واعبرْ بهم سُبلاً تغلّقها المهالكُ،
بل تضيقُ بسالكٍ دَنِسٍ بأوهام العَروشِ،
وبرهةٍ عبثيةٍ، لعبت بأقدارِ القطيعِ،
فذاك عمرٌ مستعارُ
لا تلتفتْ للساقطينَ الهالكينَ
ومَنْ تَصَبَّتْهُمْ دهوراً فتنةُ العرشِ المجيدِ.
دَعْ ذلكَ المفتونَ يهلكْ
بين مرآةٍ ودودِ.
ذاك امتحانُ السالكينَ
فَجُزْ بمن عبرَ السِّراطَ إلى الجنوبِ مُصابحاً جناتِ عَدْنٍ،
ثَمَّ تأتيكَ الإشارةْ.
لا تُّرهبنّكَ وحشةُ الليلِ العَبوسِ
ولا ارتعاشاتُ المنارةْ
حتى إذا اكتملَ الهلالُ
ودارتِ الأيّامُ دورتَها، وقد كبر الصغارُ
أَفرجْ عن اللّوحِ القديمِ
لتنجلي سُبُلُ الهدايةِ والغَوايةِ،
وَلْيكنْ لهم الخيارُ.
لا تخشَ من لغطِ الجميعِ،
إذا تحشّدِتِ الجموعُ على بساطكَ
ساخطينَ، معارضينَ
موافقينَ، مناهضينَ
فالعقلُ سيّدهُ الحوارُ
لا يحزننّكَ ما تناهى من خصومتهم إليكَ
وما تجيءُ به النّحوسُ
وما توافقتِ الطوالعُ أو تخالفتِ الطبائعُ والنفوسُ.
لا تبتئسْ..
ما أنتَ خالقُهم،
ولستَ بخالدٍ فيهم إلى أبدٍ عصيٍّ،
بَلْ ستفنى ثم تفنى، ثم تفنى،
ثمّ يندثرُ الرّفاتُ.
ما أنتَ بارئُهم
وكلٌّ في سريرته إلهُ.
كلٌّ سيعلنُ سلمَهُ أو حربَهُ.
كلٌّ سينصبُ رايةً في ذاتهِ.
يتواثبونَ ويصخبونَ ويحزنون ويفرحونَ.
يتساكبونَ على بساطِ الليلِ خمرتَهمْ
فيصفو غاضبٌ شَكِسٌ،
وينبسطُ النهارُ
فالأمرُ شورى بينهم
والعقلُ منطقُه الحوارُ
ـ3 ـ
في القلب أجراسٌ ترنُّ
فيزدهي نخلٌ، فَراشٌ
تسفر الأرضُ الصبيّةُ عن مفاتنها
وترتعشُ النجومُ
بوحاً يجوزُ مسهّداً، أرقاً، وتنداحُ التخومُ.
برزتْ على صدرِ الدروبِ سحابةٌ عطشى
وهزَّ الصمتَ رَكْبُ
سربٌ من الغزلانِ أسرى مُسْحِراً
أَوْغلنَ في قلق البراري
يرتعدْنَ، ملفَّعاتٍ بالبروقِ
متستّراتٍ في حِمَى رْمْلٍ صديقِ
والوعدُ في وادي العقيق.
برزتْ على وَجَلِ الصباحِ غزالةٌ
وتَلَتْها أخرى، كان أَعْجَلَها المسيرُ
وتتابعَ السّربُ الجفولُ محاذراً
يَسْرينَ طَيْفاً من جمالٍ فاضحٍ
عَبَقُ العَرارِ يضوعُ من أَرْدانِهِنَّ
فينتشي الوادي العطوفُ،
وكُنَّ أَحْكَمْنَ النّقابَ على الوجوهِ تَقِيَّةً
أَخْفَيْنَ ما أخفينَ من حُسْنٍ ومن وَلَهٍ
وتفضحهُ الشّفوفُ
مُتكتّماتٍ يَسْتَبقْنَ إلى مواعيدٍ
يؤرّقُها التشوّفُ والتنهّدُ،
يختفي الشوقُ المبّرحُ تحتَ أسدافٍ من الكُحْلِ المضلّلِ
ثم يظهرُ دمعةً فوق الخدودِ.
أَرْخَيْنَ بعضَ شُفوفهنَّ،
سَفَرْنَ في خَفَرٍ،
ففاحَ الحسنُ مزهوّاً،
تجندلَ ذلك الولدُ المحبُّ،
ودارَ بالرأسِ المكانُ،
وُكلَّما أَرْخَيْنَ بعضَ نقابهنَّ ازدادَ سكرا
يا ربَّ هذا الصّبِّ عَلّمْهُ قليلاً.
بعضاً من الصبرِ الجميلِ يحلُّ فيه سكينةً
ويشدّ أزرا.
ما أنتَ أَوّلُ مُدْنَفٍ
قد ضيّعَ العمرَ الجميلَ مع الوعودِ
وماتَ صبرا.
ـ 4 ـ
في العقل ناقوسٌ يئنُّ
فتخرجُ الأفلاكُ من ميقاتها
تتواثبُ الأجرامُ في هلعٍ، وينكسر المدارُ
سيكونُ بدرٌ، ثمّ بدرٌ، ثم تختلطُ الكواكبُ،
ثم تسطعُ في جناحِ الكوكبِ الشرقيِّ نارُ.
ينداحُ في الأرضِ الجرادُ.
هولٌ عظيمٌ
لو جعلتَ البحرَ حبراً كَيْ تصنّفهُ إذن نَفِدَ المِدادُ.
يا ربَّ هذا العرشِ أَنْجِدْنا، أَغثنا.
\"بغدادُ تكفيني\"،
وضاعَ الصوتُ تحتَ سنابكِ العصفِ الأكولِ
وأطفأَ الحلمَ التّتارُ.
اِنهضْ..
تلقّفكَ الظلامُ يرينُ مُهْلاً في فضاءِ القبوِ،
اِنْهَضْ.. أيّها العَلَقُ الأجيرُ.
أمسكتَ رأسَكَ
تحتمي من موجةِ الموتِ المداهمِ
في السنابكِ والحوافرِ،
أنَّ (صُوفيٌّ) ضريرُ
أمسكتَ ساقكَ
أنَّ في صمتٍ (يَساريٌّ) بصيرُ
أمسكتَ قلبكَ
أنّتِ الأشجارُ والأطيارُ والماءُ الأسيرُ
أخذتكَ داهيةُ الحوافرِ
رُحْتَ تجمعُ ما تيسّرَ من لحومِ الصّحْبِ في القبو الكبيرِ
ونهضتَ تسحبها مَهيضاً، صاحَ سجّان رجيمٌ:
ما أنت أنتَ
وهذه الأشلاءُ
ليستْ صورةَ النّغْل التي طُبعَتْ بذاكرةِ الوثائقِ،
لستَ أنتَ، فمَنْ تكونُ؟
أخذتكَ جائحةُ التّشكّكِ والظنونُ،
فرحتَ تهجسُ بارتيابٍ.. مَنْ أكونُ؟
مولايَ.. قد أعمى ظلامُ القبوِ باصرتي،
وضاعتْ في النضالِ بصيرتي
وتشابهَ اللحمُ المسجّى في جحيمِ القبوِ،
واختلطتْ قبورُ.
يا سيّدي..
اِخْتَرْ من الأشلاءِ ما تهوى
ورَتّبْ صورةَ النغلِ الحقيرِ،
فأنت أدرى بيْ وأعلمُ منذ آبادِ الدهورِ.
أسلمتَ بعضكَ للزّبانيةِ الذين تنازعوهُ،
وقطّعوهُ، وركّبوهُ.
غادرتَ طينكَ يستجيرُ
يلهو به ذئبٌ هصورُ
ووقفتَ في نَشَزٍ، تراقبهمْ،
وتضحكُ، ثم تضحكُ، ثم تهذي،
ثم يأخذك الحنينُ إلى البراري
تعدو مع الأترابِ مُهْراً في براءاتِ القفار.
بغدادُ غابتْ عنكَ هذا الموسمَ الدمويَّ
لم تَشْهَدْكَ حلماً قد تخطّفه الضّواري
كانت تلملمُ ما تناثرَ من جُسومِ فراخِها خصلاً،
وتنهضُ نحو بارئها،
ليَشَهَدها تودعُ لَحْمَها طفلاً فطفلاً،
ثم تنهضُ من خرائبها لتبدأَ رحلةً أخرى
إلى حلمٍ جديدِ
وتضيفُ فصلاً من حكايتها إلى سفرٍ رشيدِ.
قُلْ لستَ وحدكَ
إنّه فجٌّ ينوءُ بسالكيهِ،
وأنتَ خاتمةُ الفجائعِ
أنتَ فاتحةُ النشيدِ
سيكونُ بَدْرٌ، ثم بدرٌ
ثم يتلوهُ كسوفٌ أو خسوفٌ
ثم ينكسر التّتارُ
فالعقلُ سيّدُهُ الحوارُ.