على أَوّلِ الحلمِ كانتْ صغارُ العصافيرِ
تزهو على زرقةِ الرّوحِ
تَنْقُشُ فوقَ الشّراعِ المؤرّقِ سطراً
لتمحوَ من دفتر العمر عمراً.
تساقطَ قلبي على أوّلِ الدّربِ
كانَ سياجُ الرجالِ يضيقُ
وكان تناهضَ في أوّلِ الجَمْعِ قنديلُ زيتٍ عجوزٌ
يُدافعُ بعضَ الظّلامِ المسجّى
وترقصُ أضواؤه الزّهرُ فوقَ بلاطِ الطريقِ
تشعشعُ زهواً،
وترسمُ في دهشةِ الدّربِ أشباحَ جَمْعٍ،
ظلالاً، تطولُ كجنِّ الحكاياتِ حولَ المواقدِ،
تَقْصُرُ، ترتدُّ نحوَ الغيومِ،
وتعلو بعيداً، بعيداً،
بخوفِ الصغارِ، وسَجْعِ الرواةِ
لتذهبَ في مُطْلقاتِ الحكايا.
تناوبَ عَصْفُ الرجالِ الأجشُّ يسدُّ الزّقاقَ:
\"عَريس الزّين يتهنى، وعيونُكَ السّودُ\"(1)
وكانتْ أهازيجُ بعضِ الشبابِ
تَرُدُّ بصوتٍ، يتيهُ بغَضِّ الشبابِ:
\"قلعة بعلبكْ بعونِ اللهِ أخذناها\"(1)
فيعلو شجيُّ الزّغاريدِ بين النوافذِ
يعلو حنينُ الأيامى، شهيقُ الصّبايا.
وكانتْ خديجةُ بينَ النّساءِ اللّواتي يُزَغْرِدْنَ حتّى الثّمالةِ،
كانتْ تُصَلّبُ جزعاً عتيقاً
وتُحكِمُ شالَ الحريرِ
على شعرِها المستحمِّ بحنّاءِ قلبي،
وكانتْ تفيضُ على مُقْلَتيها ليالي انتظارٍ طويلٍ،
تتمتمُ حيناً، وتضحكُ حيناً،
وحينَ دعتْها الصّبايا إلى الرقصِ، مادَتْ،
وفاحَ على الوجهِ ذعرُ العذارى،
توارتْ سريعاً وراءَ النساءِ،
تَحيَّرَ فيها الحياءُ
وفارتْ على وَجْنَتَيها الدماءُ.
خديجةُ... هلاّ رقصتِ قليلاً
ـ عفَا اللهُ عنكَ.
فهلاّ شربتِ قليلاً
ـ عفَا الله عنّا وعنكَ.
خديجةً...
هذي المَسَّراتُ تَنْسَلُّ من راحتينا
وقد ضاقَ في الصدرِ رَحْبُ الفضاءِ
وفيمَ التعقُّلُ؟
هلا نُجَنُّ قليلاً
نغادرُ هذي العوالمَ،
نرقصُ حتى انطفاءِ الدماءِ،
ونشربُ، نشربُ حتى الهزيعِ الأخيرِ من العمرِ،
حتّى تميدَ بنا الأرضُ، حَيْرى،
نُسنّدُ جدرانَها المائلاتِ
ونُطلقُ من قُمْقُمِ الطّينِ طفلاً،
يعربدُ بين الأزقّةِ،
يقلقُ أمْنَ الحواري، حياءَ العَذارى،
عبوسَ الرجالِ الذين تواروا وراءَ التَّوَجُّسِ،
يَسْتَمطرونَ الأماني بحرّ الدّعاءِ.
تعاليْ نؤرقْ سكونَ المدينةِ،
صمتَ المقابرِ خلفَ الصدورِ
وخوفاً تماهى بهذا الهواءِ.
كَرمْحٍ عتيقٍ، عتيدٍ
توارتْ خديجةُ بين النساءِ
أشارتْ إليَّ ببعضِ المواجعِ خَلْساً،
وخصلةِ شالٍ
وغابتْ وراءَ رنينِ الزغاريدِ
غامتْ كطيفٍ مُحِبٍّ شفيفٍ
مضى في التوحُّدِ حتّى انطفاءِ البكاءِ.
خديجةُ...
إنّي احترقتُ
وأحرقتُ ذُلَّ المراكبِ، بحرَ الأماني، وبَرَّ الرجاءِ
إذا كان ذنبيَ أنّي عشقتكِ،
أني عشقتُ الحواري الظليلاتِ،
أني سلكتُ الدروبَ التي تسلكينَ
وأني أُحَمِّلُ أنسامَها الّلائباتِ
رسائلَ وَجْدي وبوحَ عيوني،
إذا كان ذنبيَ أنّي احترقتُ
وطهّرتُ بالفيضِ أوزارَ طيني
وأنّي طُرِدْتُ، وأنّي جُنِنْتُ
وأنّكِ وَهْمي ونارَ جُنوني؛
فإنّ ذنوبيَ تزدادُ يوماً فيوماً
وإنّ الضلوعَ تضيقُ بما تحتويهِ
وإنّ الصّباباتِ تنمو حريقاً
تفيضُ على زرقةِ الرّوحِ بوحاً غريقاً
يدافعُ طوفانَ هذا الوباءِ
إذا كانَ ذنبيَ أني أحبُّ
فإنّي سأمضي بذنبي حتى انطفاءِ الدماءِ.