إلى الشاعر حسين درويش
ـ 1 ـ
ماذا تبقى كي يؤاخذني
النبيذُ على شرودي،
فالكمنجةُ لم تعدْ ترمي بغيرِ رسائلٍ،
فاضتْ من الأشواقِ عاتبةً،
ونامتْ وحدَها فوقَ الملوحةِ والنداءْ
حتى إذا ما يممتْ شطر الحبيبةِ،
لوّنتْ لغةَ الهواءِ بروحها،
وسقتْ بساتيني بنبعٍ من صفاءْ
ـ 2 ـ
أبداً يحاولُ أن يباعدَ ما ترامى
من مزاميرِ الرثاءِ، وأن يهاجرَ
نحوها صوتاً وظلاً،
أن يوزّعَ وجدَه فوقَ المدائنِ،
أن يصادقَ ذلكَ الشحرورَ في
صبحِ الأغاني والسماءْ
لكنّه.. ما إنْ يُفتِّحَ بابَ هجرته
على ليلِ البلادِ، ويصطفي سراً
وأسماءَ الهواءْ
حتّى تراءى صوتُ بغدادَ قطاةً
في شباكٍ
والمرايا قد تلوَّنَ وجهها بمدى الدماءْ
ـ 3 ـ
في هذا الصبح المرميّ على فخّار الذكرى
يمشي منفاي سريعاً، نحو امرأةٍ
يركضُ في ساقيها الغيمُ،
فيدركُ هذا الضوءُ عيونَ النخلِ
وروحَ الحنطةِ في الأسرارْ
فيخيّل لي أني حوَّطتُ الأرضَ،
وصرتُ الغيمَ
نوافذَ من تلك الأنهارْ
لكني في الدرب إليها
أومأ ذاكَ الزهرُ لروحي،
فجريتُ لأسمعَ صوتَ الحبّ
على الأزهارْ
فلروحي كأسُ يدينه الظلُّ إليها صبحاً،
فتذوقُ بقايا الخمرةِ
كالصدفة حين تُفتِّح فمَها،
فترى دراً في داخلها،
لأصيرَ كصنج الأوتارْ
يتقوّس شدواً، فترى شجرَ اللحن
على الأقمارْ
فجلستُ أتابعُ هدهدَ روحي،
كيفَ يطيرُ بلمحِ الرؤيا،
أما ذاكَ الأحمرُ في قلبي
فلقد صارَ عيوناً
كي يتبعَ تلكَ الآثارْ
ـ 4 ـ
مزَّقتُ ظلالَ الأسماءِ، العاداتِ،
أنينَ الألمِ الواقفِ في حلقي،
ورحلتُ أداورُ ذاكَ الخجلَ المحفوفَ
بروحِ النيرانْ
ولسبعة أيامٍ، وأنا أقرأ جهراً،
ماذا أفعلُ، كيفُ أجاهدُ،
كي يتحوّلُ هذا الروحُ أصابعَ
في جسدٍ، علَّ الراحةَ تدنيه البركانْ
وهمست لأغصاني سراً،
أن تتزودَ بالسكْرِ
وأن تصعدَ نحو الماءِ،
ونحو سنابلَ قمحي
فسمعتُ حفيفَ الحورِ دموعاً
قد سكنتْ صوتَ يمامٍ
فارتعشت فيَّ اللحظةُ
حتى نبتتْ أشواكٌ في شفتي
وتراءى لي أني قد صرتُ رماداً
خلفَ دخانْ
فشربتُ الماء، رأيت بداري الروحِ
تحوكُ الأقفاصَ
وينبتُ من جرحي زهرٌ بريّ
أحمرَ كالنعمانْ
ويروحُ إلى ذاتي
غصناً غصناً، فتصيرُ كَزهرِ الرمان
ـ 5 ـ
أبداً يدافع عن ظهورِ الشيبِ
في طرفِ الأصابعِ،
أنّه ما زالَ في عهد الفتوةِ صاعداً،
أنَّ المساءَ يزيّنُ الأوقاتَ
يومَ تروحُ طعمُ الكأسِ في ليلٍ
من الشهوات
تمشي دونَ منفى
كي تداري لوعةَ التحنانِ
في روحِ القصيدِ،
بأنّه يرمي جمارَ الوقتِ
في ليلِ التأوهِ
بينَ مدٍّ وادعٍ أو جامحٍ
ليكونَ ذاكَ الجزر في عصفِ الرجولة
سرَّه نحو النشيدِ
ويكونُ أن يتلو حكايا للمعابد
يومَ صارت وردةُ الأنثى قياماً،
غيمةً تجتاح قاماتٍ
لترسمَ شارةَ الغفرانِ
في ظلِّ الجدودِ
ويكونُ أن يرمي على ذاكَ الغناءِ
رحيلَ أشواقٍ ورائحةَ البخورِ،
ظلالَ أجسادٍ تداري لوعة الأنثى،
مراياها على حبقِ النوافذِ
ثم تتركُ فوقَها حلمَ
القصيدةِ في الخلودِ
حتّى إذا دخلَ النبيذُ هدوءَ ليل
في التأمّلِ
شدَّ أحلامَ الرحالِ لشرفةٍ
تدني سماءً،
كي يرى شجراً يغرِّدُ في الأعالي
مثلما راحتْ حماماتٌ تناشدُ
خفقةَ المنديلِ في دربِ الحدودِ
فكأنما ظلُّ الإناثِ سرابٌ ليلٍ
يحتفي بدموعه بمدى الخدودِ
ـ 6 ـ
للحور قامته البهية في المدى
وله عيونُ الغيم
يرمي فوقَنا لغزَ التكوّنِ،
كي نطلَّ على الأماسي في دروبِ العمر،
مثلَ يمامةٍ، وقفتْ على بابِ الخرائبِ
فارتمتْ في صوتها عتْماً،
وذابتْ في حنينِ الكائناتْ
للحور قامته الطويلةُ في ظلالِ الشمس
عندَ مياه ذاكَ النبعِ عصراً
يفتحُ الشرفاتِ في ماضٍ،
لنغدو مثل مرآةٍ تعَتّقَ وجهها،
فنصيرَ أشكالاً تجاهدُ كي تُزيلَ
تفسخَ الأحلامِ عندَ مرابعِ الأعمارِ
كلَّ العمر في تلك الجهاتْ
للحور ظلٌّ واحدٌ،
كي أرتمي في كلِّ أنثى
باحثاً عن روحها
في غيرها
حتى إذا فاضَ الحنينُ إلى النهودِ
رأيتَني قد ملتُ نحوَ الصدرِ
مثلَ حقيقةٍ،
كي أحتمي في وجده
بمدى الدموعَ، وما تبقى
من حنينٍ فوقَ أعتابِ الفراتْ
ماذا فعلتَ الآنَ يا حورَ الجبال
بقامةِ القصبِ المسافرِ في دمي
ماذا حملتَ من المعاني، كي أفتشَ
عن زجاجٍ يكسرُ العتمَ المملَّحَ
فوقَ أرض اللهِ
في وطنِ العروبةِ،
في تباشيرِ الطغاة
فاصعدْ إلى وترٍ يلامسُ غربتي
واتركْ لذاك الطير أن يجدَ
الحديقةَ، حيثُ ترفعُ نايَها ظلاً على مهلٍ،
وترمي موتَها سَكَراً
بظلِّ أسماءَ النبات
للحور أن يرمي إلينا بالمدى
ويكحّلَ الموتَ المؤجّلَ في عيونِ الخلقِ
حتى نرتمي خِرقاً مقطّعةً، نلوّحُ في
مرافئَ أدمنتْ لغةَ العبورِ
سماءَها، ثم ارتقتْ ظلاً
تدافعُ عن بقايا الروحِ
في دربِ الحياةْ
ـ 7 ـ
ركدَ الهواءُ بظلمتي
وأنا على أبوابها أقفُ
حتّى إذا ما عتَّمتْ فيَّ الرؤى،
أودعتُ شوقي للحجارةِ،
ثم واريتُ المدى دمعاً
ورحت أجمّعُ الأسرارَ
في مينائها صبحاً
وأكتبُ ما تراءى
فوقَ ذاك الباب يوماً
قصة الحنّاء في روحي
وأنصرفُ
ـ 8 ـ
ماذا اقترفتُ من الخطيئة
كي ألامَ من العيونِ
تفكُّ أسرارَ التعبْ
ماذا حملتُ من الفراشة كي
ألاقي الموتَ في دربِ الأغاني،
كالكمنجة تسرقُ الآهاتِ
من قيسٍ
وتسمعُ صرخةَ العشاقِ في ليلي
فيقتلها اللهبْ
لأكونَ آخرَ زفرةٍ صرختْ بها
هذي النوافذُ، ثم غطّاها نزيفُ
الروحِ، مما أودعتْ تلكَ المنافي
سرَّها، وروى لياليها القصبْ
هل جئتُ من غيمِ الغموض
أم الأماسي تكسرُ الأوقاتَ
في ليلِ العربْ
من غير قصدٍ، قطّعتْ نايُ الحنينِ
جراحَ قلبي وارتمت لوناً
بذاكرة الغَربْ
ـ 9 ـ
يتكاثفُ دخانُ المقهى،
فتصيرُ غيوماً، تكشفُ عن وجهِ
امرأة سكنتْ بابَ السرِّ بروحي،
عن أحلامٍ تنسجُ خيطَ مدائنها،
فأحاولُ أن أمسكَ أشرعةَ الغيّاب
من دقّتْ بابي يوماً،
فركضتُ أجمّعُ بينَ الضفةِ والأخرى،
بين الحبرِ وذاكَ الورقِ المنسوجِ
بَحيرَةِ روحي
حتى أحسستُ بأنَّ الأرضَ انشقتْ،
ومحتْ صدأ، كي أعبرَ نحوَ حنينٍ
ساكنَ ضلعي عبرَ الأزمانْ
حتى صرتُ القوسَ، ألفُّ الأيامَ
بقلبي، كي أبصرَ أوَّلها،
وأغادرَ هذا الملحَ بماءِ الروحِ
وأعرف طعمَ التحنانْ
يتكاثف دخَّان المقهى
فأُطلُّ على عمري
لأراني طفلاً يقرأ أولَ درسٍ
ويهجي طولَ الليلِ عيون الاسمِ
ويرفعُ عن ذاكَ الأرنبِ ضحكةَ أولادٍ
كانوا ينتظرونَ سباقَ الميدانْ
حتى أحسستُ بأنَّ الأرنوبَ الخاسرَ,
قد تاه اليوم الموعودَ عن الدربْ
أو قدْ فقدَ العنوانْ
ورأيتُ الدربَ يساكنُ أصدافَ الحلمِ,
وينسجُ من ذاكَ الغيمِ دفاترَ وجدي
ويظلُّ بكلِّ الوقتِ يحاصرني
كي أمشي وأنا أُصغي لمراثٍ
تأكلُ من نارِ القلبِ,
أكونُ رماداً لا يقدرُ أن يرتدَّ وجوهاً,
فالريحُ من الذكرى تأخذه ظلاً
ليكونَ الدمعَ على الصلبانْ
ورأيتُ الضوءَ فواجعَ في قلبي,
فكأني في قفصٍ من بلورِ صافٍ
ينظرُ نحوَ الوقتِ,
يكشّفُ لونَ الأشياءِ
وحينَ يجاهرُ هذا القلبُ ببعضِ الرغبةِ,
يرتدُّ الطرفُ فيهشمُ روحَ الشهوةِ في الأبدانْ
وأُراني أركضُ خلفَ الوقتِ سريعاً,
يسحبني خيطٌ مشدودُ في ظلمةِ روحي,
كي أُصغي لمراثٍ تحرقُ أنفاسَ الكونِ
فلا تُبقي إلاّ لرمادٍ قد لفَّ الجسدَ العُريانْ
فكأني مسكونٌ بالجنِّ يطاردني
صوتٌ من عقربِ ساعتنا,
لأحسَّ بسمٍّ يقتلني,
بصخورٍ فوقَ القلبِ، تغلِّقُ بابَ الرؤيا,
وأحسُّ بأنَ الوقتَ مضى,
فخسرتُ منازلَ روحي
حتى فتحَّ جرحُ العمر نبيذاً,
فبكى شباكُ الرغبةِ في جسدي,
لم يبصرْ غيرَ الذكرى تحملُ
أسرارَ الخسران
حتى ماتتْ هذي الأعضاءُ بصدرِ اللوعةِ,
وارتحلتْ هذياناً في ليلِ الإدمانْ
كي أكملَ هذا المنفى ورقاً يتسّاقطُ
ظلاً أو
دمعاً فوق الأحضانْ
فدعي الخمرةَ تأخذُ نشوتَها,
ودعي هذا الكونَ الأصفرَ
فوقَ ثيابي,
فخريفُ العمر يباكرُ هذي الأيامَ
فيوقظُ آخرَ فصل من زهو اللونِ
حنيناً، حتى انكسرتْ تلكَ الكأسُ,
وسالُ نبيذٌ عتَّقه كرمٌ في الروحِ
فتبارى الحزنُ وضلعي
مَنْ يقدرُ أن يقطعَ في الآخر
أعصاباً وجسوراً, لا يدركها أحدٌ
غيرُ الساكنِ في هذي البلدانْ
فخرجتُ على هيئةِ ناي
قد ثَقّبه الحزنُ، فصارَ مزاميرَ الأزمانْ
فأُراني اصدحُ مثلَ \"الغرّافِ\" بظلِّ الدمعةِ في البستانْ
وأصيرَ الأفقَ الهارب
في ليلِ كؤوسٍ
لا تعرفُ كيفَ يكونُ الغيمُ دفاترَ عمرٍ
حتى يغدو عتمُ البئرِ ملاذاً,
وتعرّشُ شهوةُ ليلٍ نحو الجسرِ الفاصلِ
فترى أنَّ الضفةَ قد بَعُدتْ