تُطلين من شاهقٍ
آه يا وردةً تستحم بقَطْر الندى
يتسلَّلُ منكِ الحنينُ إلى (الخيزرانِ)(1)
يشاركني قهوتي
في مساءٍ تزينه فارهات (القدودِ)
وهذي (التواشيحُ)
ترجعني لزمانٍ مضى
يا زمان الوصال أنا مدنفٌ
تَيَّمتني مواويل (شيخ المغنينَ)(2)
حينَ سَرَتْ (خمرةُ الروحِ)
في دافئاتِ القُبلْ.
* * *
شممت روائح كل العصور على كتفيكِ
لأختار عطراً
يليق بليل زفافي إلى حاضري
(حلبُ) اليوم عاصمةٌ للشذى والندى
يطلع البدر فيها بهيّاً معافى
هنا من ثنيات أعطافها
يزحف العاشقونَ
إلى سدرة في الأعالي
يزفون وجه العروسِ
إلى شفق في تخوم المدى
أَشْهَبٌ ثوبُها
لا تُجيد التَّنَكُّرَ في لُغتينِ
ولا تصطفي لهواها
سوى من تأبَّدَ في عشقها
وارتدى الأقحوانْ
هنا (الأصفهانيُّ) أهدى حصاد الأغاني
لسيد هذا المكانْ
وتحت القناديل (رقصُ السماحِ)(3)
تجلَّى أزاهيرَ ضوءٍ
توشّى صدور الغواني
وألوانَ طيفٍ
تتوج هام الزمانْ
* * *
صحوتُ قليلاً
غفوتُ قليلاً
على حافةَ النومِ
رحتُ أُجاور أمسي
أنا والمدينة كنا
إذا مسّنا الشعر قبل انبلاج الكلامِ
نسير إلى حارة عند (باب الجنان)(4)
ومن لهفةٍ
نتبادل دمع التنهُّدِ كالعابرينَ
ونرفع رايات حزنٍ على (السهرورديِّ)(5)
كان (النسيمي)(6) يتمتم خلف خطانا
وينزف من غامض الأرجوانِ
على أحرف الياسمينْ
سمعتُ أنيناً وشهقة موتٍ
وأصداء صوتٍ
تزلزل صمت المآذنِ
غابت شموسٌ.. وبانت شموسٌ
وما زال يتلو رحيق (المواقف)(7) للنفريِّ
ـ إذا اتسع الله فينا
تضيق الحروف... ويكبر ظل المجاز
فسبحان من أضرم العشق فينا
وأسكن في الظن علم اليقينْ
* * *
رويداً... رويداً...
على هسهسات النعاس اتكأتُ
وأسرفتُ في الحلمِ
حين رأيتُ المدينة تلهث خلفي
وتأخذني من يدي لضبابٍ
يُقَلِّبُ سفراً من الذكرياتِ
هنا قاعة العرش لا عرشَ فيها
سوى السيف والدولة اليعربيةِ
كان أبو الطيب المتنبي
يزاول آخر أحلامهِ
وينوء بحمل انكساراتهِ
يترجَّلُ عن صهوة الشِّعر
يُقسم ألا يعاود مدح العبيدِ
أبا الطيب الآنَ صرنا عبيد العبيدِ
ولا طيْبَ فينا
لأنَّا أَلْفِنا الهزائمَ
يومَ أجدنا فنون المديحِ
ورحنا نصلي صلاة التزلّف للحاكمينْ.
* * *
هناك مضى (الفارس التغلبيُّ)(8)
إلى كرنَفالِ الطموح بنبرة صوتٍ
مغمسةٍ بالأنينْ
وفي قلعة الروم صاح الأسيرُ
وأنشد شعراً
يفتت صخر الزنازين في سجنهِ
حين صار يحاكي نواح اليمام الحزينْ
فهل يذكر القومُ
مَنْ كان بدراً يضيء الليالي
وهل يحمل الفجر صوتَ المؤذنِ
مُزَمَّلاً بالحنينْ.
* * *
أنا حارسً الحلمِ...
والليلِ...
والساهرينْ
سكبتُ الهوى في رحابكِ
يا قلعةَ الطيبينْ
أنا برزخ الصحو والنومِ
لن أوقظ الحلمَ من حُلمِه
طالما أنتِ يا قلعةَ النورِ
والراحِ... والروحِ
في داخلي ستكنينْ.
الهوامش:
1 ـ الخيزران: أحد المقاه