-1-
حدّثَتْني رؤىً كنتُ آنستُها
أنّها أبْصرتْ ذاتَ فجرٍ غزالاً
يحاولُ أن يُشْعلَ الماءَ في كفهِ
لم يكُنْ بعدُ قد ثبّتَ الطرفَ
في قبضة الماءِ
حتّى استحالتْ إلى جذوةٍ
كانتِ الريحُ شرقيّةً
والسماءُ لحافاً من الغيمِ
والأرضُ
لا أرضَ
كلُّ الذي كانَ:
سجّادةٌ من ظلالْ
حدّثَتْني طويلاً
كأنّ الغزالَ أمامي
تأمّلتُ في الوجهِ والكفّ والنارِ
كانَ كما الطيفِ
يلقي بنظراتهِ في الفضاءِ
نجومٌ
ورقصٌ على قبّةٍ من بياضٍ
غزالٌ
وما كالغزالِ
تقصّيتُهُ
خِلتُ قلبي يناديهِ
هلْ جاءَ؟!
أم شدّني نحو كفّيْهِ؟
وجهي يضيءُ
وعينايَ كونٌ فسيحٌ
وترتيلةٌ في فمي كالزّلالْ
باقةٌ من شموسٍ أتَتْ نحوَ قلبي
تناولتُها من يَدْينِ كما قبّتَيْنِ
ورحتُ أحلّقُ
والريحُ شرقيةٌ
ثمّ لا أرضَ
لا أرضَ
كلُّ الذي كانَ
سجّادةٌ من ضياءٍ
وصوتٌ كما لو نداءٌ خفيٌّ:
تعالْ.
ما الذي شدّ ترتيلتي في الصباحِ
إلى شرفةٍ ذات أفقٍ رخيمٍ
وألقى على كلّ حرفٍ سلاماً؟
وهل كان في خاطري أن أجيءَ
إلى حضرة الشعر هذا الصباحَ؟
يقولون:
\"في غابرِ الوقتِ
كانَ الجمَالُ إلهاً لَهُ قدرةُ الخَلْقِ
إمّا رأى خفقةً في فؤادٍ
رماها بتعزيمةٍ
فاستحالتْ إلى دُرّةٍ لا تُنالْ\"
كيفَ لي أنْ أرى درّتي
بعدَ هذا الذي كانَ لي؟!
مَنْ يدلُّ الضريرَ على وردةِ الضّوْءِ
في كفِّ ذاكَ الغزالْ؟
كيفَ لي أنْ أعيدَ الفؤاد إلى أَمْنِهِ
بعدَ هذا الذي خلتُهُ
لعبةً من خيالْ؟
لا تقلْ:
عاشقٌ ضجّتِ الريحُ في صدرِهِ
ذاتَ حبٍّ رجيمٍ
فأحنى على وردةِ الشّوقِ
قلباً ومالْ
لا تقلْ:
غيمةٌ ثمّ تمضي
نداءٌ له هيئةُ الصّمتِ
في برهةٍ من دعاءٍ
سؤال يغلّفُهُ الفَقْدُ بالصدّ
أوجاعُهُ غابةٌ من دَلالْ
لا تقلْ،
فالكلامُ الذي يجرحُ البوحَ
في صمتِهِ:
لا يُقالْ
-2-
حينما في أعالي الرؤى
تستفيقُ الحكاياتُ من صمتِها المرمريّ
وترسلُ أطفالها كي يلمُّوا لها
نرجسَ العيدِ
من غابةٍ في أعالي الكلامْ
يركضُ القلبُ ما بين خوفٍ وأمنيّة:
ثمّ يحبو على شرفةِ الأغنياتِ
التي تستحمُّ بنرجسةٍ من رخامْ
غلّ في وردةِ الكَشْفِ
مستقصياً سرَّ ذاك الجلالِ
الذي هلّ من قُبْلةٍ
ثمّ لا شيءَ في سمعِهِ
غيرُ همسٍ خفيفٍ
كأنْ قد تلاشى صدى الخطْوِ
في مقلةٍ لا تنامْ!
كيفَ يأتي منَ الغابةِ الصوتُ مزّمِّلاً؟
كيفَ لم يلمسِ الدفءَ في خدّ حوريّةٍ
أوقدَتْ في يَدْيهِ الهوى؟!
من تُرى يستجيبُ لندهتهِ
حينَ تأتي المواويلُ محزونةً في المساءِ
تفتّشُ عن صوتها؟
من يرشُّ على وجههِ بعضَ ماءِ الحياة
ويبعثُ في روحه بعضَ آيٍ
من السوسنِ العذبِ
كي يستعيدَ قليلاً من الذكرياتِ
التي ضيّعتْ بيتها؟
لم يعُدْ همّهُ الآنَ أن يغسلَ الكونَ
أو يخرجَ النارَ من صخرةٍ في الرمادِ
وأنْ يفتحَ البابَ للقادمينَ
فمن كلّ هذا الحطامِ ارتوى
عندما في أعالي الهوى
\"بنتُ مَنْ تِلْكُمُ الحلوةُ الثغرِ؟
حتّى لتنداحُ أحلى الزغاريدِ قدّامها!
حين مرّتْ
وكانت على موعدٍ في مساءٍ
من الزنبقِ الليلكيّ
انتشى بلبلٌ
واشتهتْ فلّةٌ أنْ تلمّ الخُطا
واستعادتْ عجوزٌ خلاخيلها
بنتُ مَنْ
قطعةٌ من سماءٍ
على الوردِ ينسابُ في رِقّةٍ وجهُها
مثلما لو عزَفْتَ على قلبِ ذاكَ الفتى
نغمةً في مساءٍ من العشقِ ريّانَ
همسُها
بنتُ مَنْ؟
هل تُرى صاغَها الحسنُ
من لحظِ جنيّةٍ
كي تشدَّ الرؤى نحوها!!\"
حينما في أعالي المنى:
\"ظلُّ مَنْ ذلك المستطيلُ
على شرفةِ الروح؟
كأسُ النديمِ يحاولُ أنْ يستعيدَ السلافةَ
بعضُ الجواري يجمّعْنَ آهاتِهِ في الجفونِ
ويحملْنَه في رداءٍ من الخوفِ
كيما يخبّئْنَهُ عن عيونِ النوى
حينَ ألقَيْنَهُ في فضاءٍ من العطرِ
كيما ينامَ
اختفى مثلَ طيفٍ
على غيمةٍ من غوى
هل تُرى غاصَ في العطرِ حتّى القرارِ؟
فألفى على خطوةٍ منْهُ
عصفورةَ الحلم تدعوهُ
فانثالَ في صوتِها مثلَ نايِ الجوى؟
هل تُرى صاغَ أحلامَهُ في الصباحِ
عصافيرَ من فضّةٍ
ثمّ أطلقَها في حقولِ الغناءِ
لكي يمنحَ الشعرَ أوزانَهُ
والكلامَ قناديلَهُ
كي يعيدَ الأغاريدَ من جُبّها
طالما هَدْهَدَتْهُ المواعيدُ
في حضنها الفستقيّ
وأغفى على بوحِها
خِلسةً تلتقيهِ على مفرقِ الصّحوِ
تدنيهِ من ثغرِ أحلامهِ
كي يجسّ القناديلَ
إمّا احتسى ومضةً
فرّ من نفسهِ هاجراً ظلّها
لا تقُلْ خيّبَتْهُ المواعيدُ
لم تفرشِ الوردَ في دربهِ
مثلما كانَ يشتاقهُ
كلُّ ما كان أنْ شدّهُ الحلمُ مستوحداً
نصفُ هذا الذي يرتديه سماءٌ
ونصفٌ مياهٌ
وذاكَ الذي في الأعالي
على عرشِ تفاحتينِ استوى