-1-
عَلَى باب توما(1)
تركتُ بقايا اللِّقاءِ تمورُ..
على كفِّها المستكينِ بكفّي
ولَمْلَمْتُ نفسي
وأخمدتُ وجدي وضعفي
جمعتُ بقايا المواعيدِ،
بعضَ الوعودِ،
وآخرَ أنفاسها الذاهلاتِ
وغادرتُ كي لا أكون الحبيبَ الذي عاش وهماً
ومات انتظاراً لأُنثى الأماني التي لا تجيبُ
لِتِلْكَ الَّتِي شاطرتهُ اشتْعالَ اللَّيَالِي
خَيالاً خلوبا
وكان ينوءُ بوجدِ الحضورِ
وكانتْ تغيبُ
على بَابِ تُوما
نَزَعْتُ بَقَايَا اللِّقَاءِ المريبِ بكفّي
وأعلنتُ حَتفي
كتبتُ على صخرةِ الباب سطراً
رويتُ حكايةَ مَنْ هام دهرا
ذَوى في المساءاتِ عطراً وزهرا
نقشتُ حكاياتِ قلبٍ صغيرٍ
تضرّجَ بالعشقِ عمراً فعمرا
وآبَ وقد أرهقتهُ الندوبُ
-2-
على باب تُوما
تركتُ الشبابَ المغرّرَ يهذي
يهيمُ وراءَ الصبايا
يبدّده الحسنُ،
يجري يميناً،
يطيرُ يسارا
ويذهلُ حيناً أمام اشتباك الدروبِ
فأيَّ الحواري سيسلكُ هذا المساءَ النديَّ
وأيَّ الغزالاتِ يتبعُ
أيُّ الشِّراكِ سيصطادُ هذا الغلامَ الطريَّ
فكلُّ الجمال مباحٌ
وكلُّ الغزالاتِ تُغوي
وهذا الغلامُ الغريرُ يطيشُ
وَيَسكرُ بالحُسْنِ حتّى حدودِ التَّلاشي
يغمّض عينيه،
يمسكُ بالحُسْنِ كي لا يذوبَ
يريدُ امتلاكَ الرَّبيعِ، الجميعِ
كوعلٍ وحيدٍ
يتيهُ على فاتناتِ القطيعِ
وحين يباعدُ جفنيهِ شيئاً فشيئاً
تكونُ الحَواري يبابا
نوافذُ يُسْدِلْنَ بعضَ السَّتائرِ
بَابٌ من الجَوزِ يوصدُ
همسٌ يهسهسُ خلفَ الضلوعِ
وضِحْكٌ يجلجلُ حيناً
وحيناً يزقزق كالقبّراتِ
مجونُ الصبايا اللَّواتي لَهَوْنَ قليلاً،
عَبَثْنَ قليلاً،
سَكِرْنَ بسحرِ الغوايةِ،
عُدْنَ يَفِضْنَ حُبوراً
تَسَمَّرْنَ خلفَ النوافذِ يكتمنَ ضحكاً رقيقاً
يراقبنَ ما صِدْنَ خَلَساً
وذاكَ المعلَّقُ فوقَ خيوطِ الأماني العذابِ
تَسَمَّرَ في ساحةِ الحيِّ يهذي
يغنّي لتلك النوافذِ،
يُنشدُ عذبَ الكلامْ
تَسَلَّلْتُ خلَساً إلى دربِ حَنّا،
وغبتُ بخمّارةٍ في الظلامْ
-3-
على باب تُوما
تركتُ الصغيرَ وحيداً.. يلوبُ
وأُبْتُ إلى موقعي في الجنوبِ
تراشقْتُ بعضَ الرصاصِ،
وبعضَ القذائفِ،
بعضَ الشتائمِ
كانتْ مواقعُ \"تَلِّ الفَرَسْ\"(2)
تردّ علينا برِشْقٍ فرِشْقٍ
فتنبعُ تلك التلالُ بوهجٍ من الأصفرِ المُستشيطِ
وتبرزُ في الغربِ أشباحُ رعبٍ
يغيرون سرباً فسرباً
تزغردُ \"جَوْلانُ\" ناراً
ويندفعُ الغيظُ فوقَ الرؤوسِ..
حبالاً من الأصفرِ الأزرقِ المستفزِّ
وتغدو السماءُ احتفالاً بغيضاً بألعابها القاتلةْ
يقهقهُ في البعد صوت صديقٌ:
تَوارى،
تَضاءلْ،
وطاطِئْ قليلاً لئلاّ تنالك تلك الشظايا،
ونعدمُ رابعنا في جحيمِ الليالي..
أوانَ يدورُ شرابُ \"العَرَقْ\"
ونسعدُ بالشتمِ واللّعنِ آنَ الخساراتُ..
تترى عليكَ بلعبِ \"الورقْ\"
تضاءلتُ حيناً،
وحيناً برزتُ
وبارزتُ تلك المواقعَ فوقَ التِّلالِ
ويوماً فيوماً لهوتًُ طويلاً مع الموتِ
وازددتُ غيظاً وحقدا
تنامى بصدريَ ظَنٌّ لجوجٌ
يوسوس أنّ عدوّ التلال يقهقهُ..
يسخرُ..
يعلم أنّي تركت الصغيرَ وحيداً..
على باب تُوما يلوبُ.
وبعد ثلاثينَ عاماً
وقفتُ على البابِ أنقاضَ كهلٍ..
أفكّكُ بعضَ الرموزِ
لأقرأَ سطراً بأسفار عمري..
الذي لم أَعِشْهُ كما كنتُ أهوى
وعاشَ كما شاءَ،
طفلاً يهيمُ
وحين هممتُ بمحوِ النقوشِ
تراءى ليَ الطفلُ بين السطورِ
وكان هناك وحيداً.. يلوبُ
على بابِ تُوما.