معَ الفجرِ
دبَّ نداءُ الحياةِ اللَّجوجُ
يباغتُ صمتَ الهزيعِ الأخيرِ
يخالطُ رَجْعَ الأذانِ وطُهْرَ الوضوءِ
وجَلْجَلَ في ساحةِ الدارِ صوتٌ مَهيبٌ
تَمَاهَتْ بهِ هَمْهَمَاتُ النِّساءِ
اللَّواتي تَسَابَقْنَ يَجْمَعْنَ زاداً
ليومٍ جديدٍ
لشمسٍ.. تُشَقْشِقُ بينَ عجائزِ أشجارِ توتٍ
تُصَبِّحُ بالخيرِ وجهَ الدّوالي
تُضَرِّجُ غافي العناقيدِ
شوقاً إلى الدِّفْءِ، فالنُّضْجِ، تَزْهو اشتعالا.
تَفَلَّتُ من لِذَّةِ النَّومِ
أَفْرُكُ عيناً
وَعيناً.. تُدافِعُ بعضَ النُّعاسِ.
-خذوني إلى الكَرْمِ.
-ما زلتَ طِفلاً.
تَسَلَّلْتُ خلفَ النِّساءِ العِجافِ
أُخاتِلُ لَسْعَ الصَّبَاحِ النَّدِيَّ
وَأَفْرُكُ كَفَّاً بِكَفٍّ، بِأَنفِ،
بِخَدٍّ تَسَعَّرَ كالجُلَّنارِ
وَكُنَّ يَجُزْنَ خلالَ الدَّوالي
يلاحِقْنَ عشباً غريباً
نَمَا خِلْسَةً في أُصولِ الشُّجَيراتِ
يُعْمِلْنَ فيهِ \"المناكيشَ\"
يَهوي على الوجهِ
تَهْوي زهورٌ بلونٍ العيونِ
وحينَ تُداهِمُها الشَّمسُ.. تَذْوي
تُغَمِّضُ خُضْرَ الجفونِ
تُخاتِلُ ذَاكَ المصيرَ العَجولَ
وتهربُ في دورةِ الوقتِ
هذا ذبولٌ، فموتٌ، فبعثٌ جديدٌ
تعودُ على هَسْهَساتِ الرَّبيعِ
تُحَضِّرُ من جسمها الغَضِّ حِضْنَاً
لشحرورةٍ في الجِوارِ تَهيمُ
تَجوسُ خلالَ الدَّوالي اللَّواتي تَزَيَّنَ،
أَبْدَيْنَ بعضَ المفاتنِ
موجاً من الخُضْرَةِ الفاغِمَهْ
وَهَيَّأْنَ في الصَّدرِ عَرْشاً خَفِيَّاً
لِعُرْسٍ وَشيكٍ
لِشَحْرورةٍ في الجِوارِ تُغَنِّي،
تَفيضُ بشوقِ الأُنوثَةِ للعشق حتّى الدُّوارِ
لقد آنَ أن تَبْتَني عُشَّهَا
وَآنَ لشحرورِها أن يعودَ
ليدخلَ طَقْسَاً جديداً
ويَعْلو النَّشيدُ.
تَراكَضْتُ خلفَ النِّساءِ العَجولاتِ
علِّي أُعَمّي عليهنَّ دربَ الزُّهورِ
وكنتُ أنطُّ وأَقفزُ ما بينَ سيقانِهِنَّ
أُهَرِّجُ، أَصْخَبُ، علَّ النِّساءَ تَضِلُّ
وتنسى \"المناكيشُ\" بعضَ الزُّهورِ
لعلَّ الشحاريرَ تأوي إليها،
تكونُ ملاذاً خفيّاً
لبعضِ الصِّغارِ الذَّينَ يَدبُّونَ فِي أَوَّلِ العشقِ
أو يَقرؤونَ أوائلَ ما طرَّزوهُ
على دفترِ العُمْرِ زَهْواً منَ الشعرِ
يَهْوونَ طَوْعاً،
بِإِغْواءِ نارِ الحروفِ
وما قَرْزَموهُ كفاتحةٍ للنَّشيدِ.
تعالى نداءُ المآذنِ في مسجدِ ابنِ الوليدِ
-هوَ العصرُ.
أشرقَ وجهَ النِّساءِ العِجافِ
ترامَتْ إلى الأرضِ بعضُ \"المناكيشِ\"
أَرْخَيْنَ أَذْيَالهنَّ
وَهُنَّ يُدَنْدِنَّ بعضَ \"العَتَابَا\"
وَصَاحَ بِيَ الجَدُّ: هيّا اقْتَرِبْ يا وَلَدْ.
قَفَزْتُ رَدِيفاً لجدّي
عَلَى صَهْوَةِ الأَبيضِ المُلْتَهِبْ
تهاوى على الدَّربِ طيراً
يخافُ اقترابَ الظلامِ
وَرَاحَ يَخِبُّ.. يَخِبُّ،
وَلاَحَتْ عَلَى الْبُعْدِ أَشباحُ بعضِ البَلَدْ.
-2-
على غفلةٍ من عُيونِ الكلامِ
تَفَتَّحَ طفلٌ خجولٌ
توارى طويلاً وراءَ اشْتِعَالِ الشَّرابِ..
طويلاً.. وراءَ اشْتِعالِ الوجيبِ
تَشَاغَلَ بِالْكَأسِ رَشْفَاً فَرشْفاً
لَعَلَّ عيونَ النَّدامى الكليلاتِ تَسْهو، تغيبُ
وأَشْعَلَ قنديلَ عشقٍ قديمٍ
تلألأَ في الوجهِ شوقٌ كليمٌ
وَجُنَّتْ وَفَاحَتْ عليهِ الطُّيوبُ
أَتِلْكَ الشَّواطِئُ تغرقُ فينا
أمِ البحرُ غادرَ في السِّرِّ خلفَ الشُّموسِ
إلى حيثُ غِبْنا، وحيثُ تَغَيبُ؟!
أقولُ: وداعاً لأيّامِكَ الصّاخِبَاتِ
وَدَاعَاً
لِطفلٍ تَمَاهَى معَ اللَّهْوِ دهراً
وحينَ تَوَقَّفَ كي يستريحَ قليلاً
طَواهُ المَشيبُ
فكيفَ – على غَفْلَةٍ منهُ – خَارَ الشَّبَابُ
وَكَيْفَ – على غَفْلَةٍ – خَابَ فيهِ الوجيبُ؟!
وَهَلْ كَانَ، مَا كَانَ، وَهماً صغيراً
تَمَاوَجَ فيهِ سرابٌ كَذوبٌ
ومَا كانَ لَهْوٌ، وَمَا كَانَ طِفْلٌ
لَقَدْ كَانَ فِي البَدْءِ كَهْلٌ مَهِيبٌ
تَرَاءَى لَهُ فِي حَنينِ الشَّرَابِ زمانٌ بَعيدٌ
وهيهاتَ.. كيفَ يَؤوبُ البعيدُ القريبُ؟؟؟.