لمَّ الليلُ صباياهُ
تركَ المقعدَ لا أسفاً
ومضى في المقهى يسهر
صبَّ كؤوسَ الشوقِ ورشَّ على جنباتِ الريحِ الماءَ
لكيلا تلتصقَ الريحُ
بمسكِ الأرضْ
وتوسَّدَ كلَّ وصاياهُ
بذراعينِ، وهامَ يراقص فتنتَهُ
ويتمتم في عينيهِ المغمضتين فَراش الضوء
ويومئ للأوكار: هلمّي
هاتي كلَّ شحاريرِك
فالضوءُ يجنّد وردَتَهُ
ويبيد خريفَ الكون بنظرته الكبرى
ومضيتُ أنا ـ ليلى ـ
أترقّب كلَّ خطاهُ
وأقابل في السرِّ جميعَ سباياهُ
تخلع عنها في ظلِّ الماء بحيرتَها
وتجلبَبُ بالشَّفّافِ الضوئيِّ
فلا أفضح منكشِفَ الوردِ
ولا أفتق أفوافَ النهدِ
وستْرَ الوقتِ
ولا أحد ثمّةَ.. غيرُ موائمةِ الأشياء
ولا خدر غيرُ مواكبةِ الأضواءْ
لا أحد إلاّكِ
وأنتِ.
وأنا في الركن هناكْ
أترقّب كيف يكون ضياؤكِ حين يشقّ الليلُ مراياكِ
أتلّهف في وقتي
أن أسمعَ ضوءاً يتوامض من جسدٍ فتّاحٍ فتَّاكِ
من جسدٍ لا يعبث بالعتماتْ
يا ليلى ما فات الضوء ولا العقدُ الوامضُ منه
انفرط الماءُ، اللؤلؤ، والأسماكْ
يا أنتِ يرجّ فؤادي شيءٌ حين أراكِ
كما في ماء بحيرةِ حوريّات
ترتجّ الأفلاكْ...
أتوارى خلفَ وداعتك العذراءِ
أضمُّ إلى قلبي رعشتَهُ
وأكابدُ حين يكون الوردُ جليساً
يتواعدنا بالموسمِ حين يضجّ العطرُ على شجرِ اللقيا
آهٍ..هل تغرقني أغصانُ البالِ
وهل تقصفني
أوراقُ هلال؟!
من وقتكِ أستودع شِعري همِّي
من وقتي أستوثق بالوجدِ وألمحني فيكِ شهياً
أتقدّمُ نحوكِ نبضاً
أتحرّقُ فيكِ
أواكب خطوَ عيونِكِ في المرسمْ
ما غيرُ شفيفِ الحلمِ يشفُّ
وما غيرُ رصيفِ الحزنِ يرفُّ
وما غيرُ أثيرِ الهمسِ يزفّْ
ألفٌ) بكِ تعطف لبلابَ الشوقِ
ولامٌ) تكتبُ لوحتَها في نصفِ إطارٍ متبقِّ
حاءٌ) تنحو نحو شمالِ الشمسِ
وباءٌ) تنمو في جنبات الكون
برقٌ... برقٌ... برقٌ... برقْ
مطرٌ يهمي
ودمي حرقْ
مطرٌ... مطرٌ... مطرٌ... مطرُ
برقٌ يهطل
ودمي شوقْ
أسندَ قامةَ وقتي بظلالِ المقتِ
أوجّهُ لليلِ خطاباً
يلتمُّ الليلُ ويمضي عُرياناً في أنحاءِ الوقتِ
ألمح كلَّ صباياهُ
تجترُّ ظلالاً، وضياءً ينحف كالصفصاف
أجرّ إليه مقعدَ حب
وأسائله عن لوعتهِ
عن مأساةِ تعاطيه نعناعَ الضوء
بكأسِ الخلوةِ
يرمقني بجلال النجوى
ويوسّدني منه حديثَ حكيمٍ
كم نقلَ الأوتارَ على كفنٍ
كم زرعَ الحسْنَ وكفَّنَ من لفَّتِهِ قبحَ النظرةِ للأشياءْ
كم واسى مظلوماً في الركن المنسيِّ
وكم أوصلَ كلَّ نجومِ الحيرةِ شاطِئَها
كم أعْتقَ في الحبِّ صهيلَ الفكرِ
وأطلقَ من كبوَتِها كلَّ خيولِ الفجرِ!!
***
وأنا يا ليلى
فتّشتُ بقلبِ الليلِ ، تساءلتُ كثيراً
ماذا يا ليلُ تخبِّئُ في معطَفِكَ النعسانِ؟!
وما تحمل في جعْبَتكَ الفينانةِ من أقواسِ حنانْ؟!
أطرَقَ صدرُ الليلِ الواسع.. فاهتزّ بداخلهِ شيءٌ
أكبرُ من خارطةِ الأحزانْ
وتنهَّدَ قبل البوحِ بشيءٍ
وارتجفتْ كلُّ مفاصل أنفاسي
ووقفتُ بأهدابِ السمعِ على إحساسي
أوجستُ بقلبي قمعاً
ذا قامةِ إبن(1) الطوفانْ
وسمعتُ.. سمعتُ
بباصرتي ما لا يسمعه إنسانُ الإنسانْ
فإذا لليلِ قصائدُهُ
وإذا لليلِ مواجعُهُ
وإذا للحبِ تواجُدُهُ
ينصبُ في الليلِ قيامَتَهُ..
وإذا لليلِ حضورُكِ
للشوقِ تهاتفُهُ...
تخرج ليلى... يا ليلى...
من قلب الليل عروساً تشرق بالأضواء
جسداً مرميّاً في قلبِ العينْ
جسداً ورديّاً في كفن البينْ
قمراً قزحيّاً في كبد الليلْ
وَرَقاً هتّافاً
من سِفْرِ بنفسجةٍ
وعداً وقتيّاً
في زمن التوقْ
..
تخرج ليلى .. جسداً حلواً
ضوءاً
يُرعِشُ أهدابي
ويحفّ بطلعتهِ محرابي..
يا جسداً من لبِّ الليل تفتَّق
بوركتَ تشقشق جلبابَ الزمن الغارب
في الفلواتِ المنسيَّةْ
بوركتَ تبلسم حزنَ اللوحةِ بالفرشاةِ القزحيّهْ
يا جسدَ الليلِ المضمَرَ تدخل تأريجَ الأضواءِ
وتصبح نهراً من بدن الإشعاعِ
تدور بقلبي بقصائد نورْ
وأهزّ غصونَ البعدِ إليك
وأحزم أمتعةَ الشهْبِ
فتحرقني
شِعراً
وأبلور في قافلةِ الشوقِ مسافاتِ البعد لدينا
أصرخ: يا ليلى
يا جزراً في البال
تضيءُ بوجدانِ المركبِ طافيةً
طافحةً بالأنداءْ
كيف تسلسَلَ في هدأةِ أزمنةٍ
هذا المركبُ نحو شواطئِ أقبيتي
كيف انسَلَّ إلى كهفي
وتوقّد من مجدافِ وداعتهِ
وتوعّد بالنيرانِ بساتيني، أوديتي، أوردتي؟!
يانصلاً حاداً حلواً
يقطفني غصنَيْنْ
غصناً أركبه آتيكِ لألحمَ موجتَهُ
في اليمِّ، وآخر يلحمني فيكِ
كمركبةٍ في آثارِ الليلِ
وعبرَ أثير اللحظةِ يدفعني..
يا ليلاً يخرج من ليلى
يا ليلى تخرج من صدري
شِعراً
مزروعاً بالقمحِ
وبالليمونْ
يا شقّاً مرسوماً
في نهرِ المشمشِ
ياعينَيْ تفّاحٍ في تاريخِ الحقلِ النازفِ
بالألوانِ، وبالرائحةِ الأندرْ
يا شجراً..
يا جزراً نامتْ زمناً في خلجاني
أهديكِ، إذا نامَ الظلُّ ، مساحةَ ألواني
فأنا ما زلتُ أُحبِّكُ من شَبَكِ الصيدِ
مجرّاتي
مازلتُ على طرفِ الرؤيا
ألتقطُ الشِّعرَ الأحمرْ
من زاوية القلبْ
وأنا ما زلتُ ألوّح بالقنديلِ
إليكِ
ما نفد الزيتُ لديَّ وما رحلتْ سمكاتي من عينيكِ
ما زلتُ أرفرفُ كالمنديلِ..
وأنا في شاطئ ليلي
يُخرِجني أحياناً عن طوري
يُخرجني أصدافاً
للرملِ..
أدخل يمّي .. أتلقّى ضوءاً
يهدرني
فأعود، أعود إليكِ
سمكاً شِعريّاً
وحكايا جنيّةْ
ورؤىً تنهلّ كما قزحٍ
في زاوية البيتِ الضاربِ في هدأتهِ
يتوامض وقْعاً
في خابيةِ المسّْ
وأنا كالطوفانِ الوادع
أحمل خمرةَ أشواقي
في جفنِ الليلِ إلى شفتيكِ
وأضمُّ.. إليك إليَّ أضمُّ
شراعي
تأخذني من بين ذراعي
موجاتي
فأفيق على موجةِ أوجاعي
نامي.. يا أوجاعَ الضوءِ بعمقي نامي
فالضوءُ الأسوَدُ
مركبةٌ
لبِلا جزرٍ
وبلا مدنٍ
وبلا أفقٍ
..
نامي.. أضمومةَ أنسامي
والضوءُ الأسودُ يا ليلي
يمتدّ حريراً في نسغ الجرحِ
يضمّد بالترياقِ الكحلي
كلَّ جرار الملحِ
..
يا سفراً دامَ... يدومْ
يا شالاً من وردٍ ونجومْ
يا ضوءاً
في فلكِ المصباح يعومْ
دمتَ.. أدومْ
متَّ.. تقومْ
تِهْ.. دُمْ مْ مْ
