محمد ابراهيم عياش
الشاعر :
القصيدة :
44051
رقم القصيدة :
::: ذكريات من الـمـاضـي :::
طاعِنٌ في السِنّ،
هذا الجبل الغارق في أحلامهِ،
والأرض ملهى.
في رحيل الوقْتِ،
هاجت مدن المِلحِ،
وما زالَ يعدّ الزمنَ الرّخو،
وينوي سفراً عبر المسافاتِ،
على ظهر سفينةْ.
أثقلوا النّعش بجسم للغد المجهول،
واجتازوا حدود المقبرة.
يتنادون على ظهر جوادٍ خشبيّ،
عشقتهُ الرّيح،
فانساب على دفّة موجةْ
وشوشتْني هذه الأرض،
وكانت صور التاريخ في شريانها،
أعمدة الرومان في قلعة بصرى.
ويعاد الزمن الماضي إلى ذاكرة الوقْتِ،
ويزداد مع البعد الرحيلْ
عندما كنت أعدّ الحجر المرصوص في الدرّب،
ويلهو في دمي الأطفالُ،
كان الوقت أحلى.
وزرعْت الزمن الآتي،
على نبضةِ قلب غار في شرْيان منفى.
-2-
عندما هاجمني الظلّ،
تلبّسْتِ افتراضاتي،
وفي أعلى إثاراتي،
تجاهلْتِ انتباهي.
وتحوّلت إلى هبّة صيفِ،
لفحتْ وجهي،
وغاصَتْ بين أعصاب البراكينِ،
ومرّتْ وأنا الّلاهي؛
وصمت الشّمس يشويني،
ويشوي جسدي،
قربُك والبعدُ،
ويزداد احتراقي.
وتصوّرت بريق النّور في وجهك بدراً،
وتجمّعتُ على أصداء روحي،
أسبرُ الماضي
وأمتصّ رحيقاً منْ شفاهِ اللّوز،
منْ روح فتاتي.
حينما أسمو مع الشّعر،
إلى إغفاءة الطير،
وأطوي ألمي،
تسبقني الشّمس وتحنو
وأرى مزرعة العشّاقِ في دربي،
متاهاتٍ وأغفو
وأرى فوق أديم الماء أجساداً لأحلى أمنياتي.
-3-
في جناح الأهل والدّار،
وفي لحظة فكرٍ، بين سكّان المقابرْ.
تحتسي شهوتَها الأرضُ،
وتندى جبهةُ الوقْتِ،
فلا تبكِ،
فإنّ الزمنَ القادمَ ليلٌ،
والنّهارات خناجرْ.
-4-
تتراءى حولك الدّنيا شباكاً،
وأرى الخمسين عاماً،
تنتف الإحساس منْ جسم مغادرْ
وأرى آخر جرْح منْ سهام الزمن القاسي،
على أعمدتي أكذوبة
منْ غير شعر أو جدائلْ
وأراكِ الآن أمّاً تتلظْى،
والذي كان علي الأرصفةِ الصمّاء،
رسماً من محطّاتِ قطارٍ،
عبر الوقت وأرخى خلفه زوبعةً،
عانقت الجيلَ،
وهاجت بين سيقان المنايا.
ليتني أبني على الأعوام جسراً،
سقفه صرخة طفلٍ،
وعلى جدرانهِ..
لوحات رسّامٍ وناظرْ.
-5-
ومنَ الحلم أناديكِ،
رسولٌ يحمل الزَّهَرَ،
أناجي طيفك السّاحر
أبني تحت أقدامك بيتاً،
منْ بيوت البدّو،
أرعى غنم القومِ،
وألقي جسدي تحت سماءٍ،
ساعتي نجمٌ،
وظلّي خيمة الغيم المسافرْ.
لا تقولي: اشتعل الشّيب برأسِهْ،
أو تقولي: وهن العظمُ،
فإنّي لغة أكتشف الفعل منَ الفاعلِ،
أبني منْ عبير الحبّ،
أسماءً لأنثى،
رسَمَتْ في داخلي صيحاتِ شاعرْ.
وتلاقينا على لحن التراتيل،
وعشنا ألق المنفى على جذع من اللّوزِ،
حَبَسْنا آخر الأنفاسِ،
في رعشة صَمْتٍ،
ودخلنا عالم النّشوةِ،
لا ندري،
أشرٌّ ما فعلنا،
أم بدأنا نعكس العدَّ
فقد يأتي زمان الزوبعةْ.
-6-
عاتبيني،
واهدمي أعمدة الجسر،
وصبّي أرق اللّيل بكأسٍ،
واشربيني،
واشربي ما خلّف الإسراف مِن دمْعٍ،
وخلّي لغة الهمسِ تنادي شفتيا،
واطردي عن نفْسكِ الأوهامَ،
واستلقي على أنغام روحي،
واعبري الدّربَ،
وناجي لغة الأطيار،
وابني للهوى عُشاً،
على غصن منَ الصفصافِ،
أرخى جذرهُ في أرض بابلْ.
لا تقولي:
اشتعل الشيب،
فما زال بقلبي مرح الأطفالِ،
في روحي،
اخضرار الزمن العابرِ،
والعشْق جوادي
سامحيني،
ودعي النّفس تعرِّ الجسد الغارق في أحلامهِ،
عند التلاقي.
فأنا الآن بقايا
وصراخ الأمس في جسمي
شظايا،
والغد الآتي،
حريقٌ منْ هشيم اليومِ،
يسري بين أعواد احتراقي
اغفري ذنبي،
فإني حينما جدّلْت شَعر اللّيل،
أفردت خيوط العتمة السوداء،
عند الفجر،
أفرغْتُ اشتياقي
وخلعْتُ الصّيفَ عنْ جسمي،
وأبدلت ردائي،
لا تقولي صمت الشعر،
فإن الشعر صوتٌ
يختفي بين ثنايا الرّوح،
في أنفاس ثائرْ
-7-
لا تقولي انتحر الماضي على كفّ غريبٍ،
أو تردّى
أو تقولي: شرب الدهر خطانا،
أو تحدّى
-8-
هذه أعزوفة،
منْ زمنٍ خطّ على أعتابه الفقرُ إشاراتٍ،
وأرخى جسداً للعشْق،
في دنيا المسافاتِ،
بقايا منْ ركام النّفس،
/شيءٌ من لعابِ الغيم/،
والطوفان في الوادي،
وقد كنّا صغاراً
لا نرى إلا ضجيج الناس،
والقطعان باتت يعتريها الخوف
من موتٍ على ضفّته الأخرى
ويبدون حيارى.
يبسط الماء ذراعيه على أجنحة الوادي
ويزداد التحدّي.
وكما قالوا:
فإنّ الماء قد جُنّ جنونُهْ
وبريقُ السَّخط بادٍ في عيونِهْ
إنّهُ ينتظر الوقت،
ليقضي الشهوة العمياء
حتّى يُقبلَ الصَلحُ وترتاحَ جفونُهْ.
-9-
كبُرتْ أجنحة الأيام
فالأطيار يبدو ضعفها،
تبحث عن حبّة قمحٍ
ورغيف الخبز سيفٌ مشهرٌ،
في جبهة الجوع بحدّينِ،
وجمع منْ نساء الحيِّ
يرفضن التقاط السّبل الصافي مِنَ الحقْلِ،
فقد يبتدىء الإضرابُ،
منْ أول صوت
صادرته الرّيح
منْ عهد سليمانَ،
إلى عهد السلاطينِ،
إلى أخر نبتةْ.
وتوارثْنا منَ القمح بذاراً
تمرعُ الأرض بزرعٍ عاشرتْهُ...
هبّة منْ زحمةً الرّيح،
ومنْ قطر الهتونْ.
ويجيء الصّبح مغموراً بصَمْت اللّيلِ،
مقطوراً بأهداب الجفون
-10-
لملمي يا صرخة الأمْسِ،
نداء الكفن الغارقِ بالدّمعِ،
وصبّي منْ دم الأعوام ألحاناً على الأوتار
وأشوي جسد التاريخ،
وأكويهِ بنيران الشّظايا،
واجعلي منْ غضب الدّهر دواءً،
لأب ما عاد يشفيه نقيع العشْب والزّهرِ،
فهذا زمن الإبحار في دنيا الخطايا
وصُراخ النَّفسِ الهاربِ،
لا يُشفى بماء الورْد،
والنيران تشتدّ إذا آزرها الرّيح وتعلو
وهنتْ أعمدة الصّبر،
وأحنَتْ ظهرها الأيّامُ،
والدّنيا على الدولاب
تجتاز المسافاتِ،
وما زلنا نصلّي منْ طلوع الفجرِ،
حتّى آخر الليلِ،
على جُثةِ هذا الميّتِ الآتي مِنَ البُعْد،
نصلّي كلما عاندنا الطقس على سجَّادة الريحِ المسافر
ونعضّ الرّوح بالأنياب،
حيناً نشرب القهر؛
فتحمرّ شفاهُ الحَزَنِ الحاضر والآتي
ونغفو في فراشِ الشّهوة الخضراءِ،
نبني وطناً مِنْ دَبَقِ الماءِ،