السّاعَةُ تالِفَةٌ
والحانَةُ تَغْلي بالرُّوّادِ جُموعاً عَطْشَى
تتدافعُ نحوَ السَّاقي أَيْدٍ راعِشَةٌ
أَلْسِنَةٌ يَعْقِلُها ما يعقلُها.
من أَيِّ الخمرِ سنشربُ هذا اليومَ،
لقد جَرَّبْنَا أصنافَ الرَّاحِ لَيالٍ إِثْرَ ليالٍ
لكنَّ الرَّاحةَ لا تَحْضُرُنا
والرُّكْنُ المعهودُ سُكُونٌ
يَتَلفَّعُ بالصّمتِ وأَسْدافِ العَتْمَةِ،
فالأكوابُ انكفأتْ ساهمةً،
ونَداماكَ غيابٌ.
هَلْ أخطأتُ الوَعْدَ؟
أَمْ أنّي جُزْتُ ببابٍ لا يُفْضِي؟
أَمْ أنَّ الحانةَ ليستْ حانَتَنَا،
فالسَّاقي يَرْمُقُني خَلْساً
والرّيبةُ في عينيهِ سؤالٌ جَزِعٌ.
-لكنَّ الليلَ يكادُ يضيعُ وأنتَ تجوبُ
ففي أيِّ الحاناتِ تركتَ نداماكَ؟!
صاحَ الحَسَنُ المبهورُ مَغِيظاً:
هذي ليستْ دارَ نَداماكَ، فترحَّلْ عَنّا
مَصْحوباً بالوحدةِ والخسرانِ،
فقد أيقظتَ الهاجعَ في القلبِ وصدرِ الصَّحبِ.
فإلى أيِّ الحاناتِ سنمضي يا ربُّ؟
-اِمْضِ إلى الدّارِ الأُخْرَى
دارِ نداماكَ المنذورينَ لليلِ الهَجْرِ
تَرَكُوا في صَدْرِ المجلسِ آثارَ الزِّقِّ، وبعضَ الشّعرِ،
وأغصانَ الرّيحانِ الذّاوِي،
وَمَضوا.
فإلى أينَ تَخِبُّ مَطاياهُمْ ويَخبّونَ،
وفي أيِّ الحاناتِ سألقاهُمْ،
وأَنَا المكسورُ المُوثَقُ بالطّينِ وأوزارِ القلبِ؟!
***
هَسْهَسَ صَوْتُ الوالدِ في صَحْنِ الدارِ رَضيّاً: يا فَتَّاحُ
جاوبهُ صوتُ الجارِ يُلَعْلِعُ: يا رزّاقُ
وتناغمَ رَجْعُ المئذنةِ الهاطِلُ،
يطرقُ أبوابَ النُّوَّامِ
تَفْتَحُ بعضُ الأبوابِ برِفْقٍ
يَتَلقّاها البردُ ولَذْعُ المطرِ المجنونِ، فهذا كانونُ
يتقلّبُ في الحضنِ الدافئ طفلٌ فَزِعٌ
تحضنُهُ الأمُّ مُعَوِّذَةً ومُحَصِّنَةً بالآيات وأسماءِ اللّهِ الحُسْنَى.
أَقْبَلْتَ على صَدْرِ الشّارع ظلاًّ
يتطوَّحُ تحتَ شبابيكِ السَّحَرِ
يتوكأُ جُدراناً مائلةً أوْ تتوكّأُهُ
يصدحُ تحتَ الشّباكِ الهاجعِ ما يحفظُ من شعرِ الحبِّ
وأخبارِ الغَزَلِ
يتداعَى العشقُ على قَدَمَيْ رَبَّتِهِ، وتصيحُ:
يا ربَّ العُشّاقِ جَميعاً،
أَلْهِمْ هذا الآبِقَ بعضَ العِفَّةِ،
واسكبْ في عينيهِ قليلاً من ماءِ الصّبرِ.
تَنْصَبُّ عليه اللّعناتُ، من نافذةٍ، لا تهجعُ أبداً،
تصرخُ زاجرةً:
يا ديكَ الجِنِّ لقدْ أقلقتَ النَّومَ، تَرَحَّلْ عن حارَتِنَا
فرجالُ الحيِّ مَغِيظُونَ، وهذا شعرٌ شَبِقٌ،
يَنْسلُّ عَمِيقاً،
يفضحُ مَكْنُونَ الصّدرِ، ويُوهِي أَسْدافَ العِفَّةِ عندَ الفتياتِ،
تُشْعِلُ في الجَسَدِ الغَضِّ النارَ، ولا تَدريْ.
-بَلْ أَدْرِيْ
أدريْ أنّي أَتَطوّحُ فوقَ الجَمْرِ.
-أَقْصِرْ يا ديكَ الجنِّ وغادِرْ..
صُعْلوكاً مقطوعَ الجَذْرِ
هذي بئْرٌ غادرةُ القَعْرِ
صحراءٌ موحشةٌ لا يقطعُها إِنْسٌ أو طَيْرُ.
فإلى أيِّ الحاناتِ ستسلُكُ هذا اللّيلَ، وهلْ تقبُلكَ الخَمْرُ؟!
وَسْوَسَ في زاوية الشارعِ ضَوْءٌ مَبْهُوتٌ،
تَعْتَعَهُ السُّكْرُ،
ناداكَ: تَعَجَّلْ
فالخَمَّارُ سَيُقْفِلُ بعدَ قليلٍ،
والعَسَسُ المُتَرَبِّصُ يصطادُ من الرأسِ خُمارَ الخمرِ .
قلتُ: شربتُ ثلاثَ كؤوسٍ، كيفَ يكونُ السُّكْرُ؟
-حَدُّ السُّكْرِ ثلاثُ دِنَانٍ صِرْفٌ.
-ساكَنْتُ الحانةَ دَهْراً، وسرقْتُ ثيابَ الخَمَّارينَ
أَسْلَسْتُ لكفِّ السّاقي رأساً حَرِداً
لكنَّ السُّكْرَ ضَنينٌ مُمْتنِعٌ،
كيفَ يجيءُ السُّكْرُ؟
-لن تعرفَ طَعْمَ السُّكْرِ
لن يعرفَ هذا الطّينُ جلالَ الخمرِ
دَعْ روحَكَ تشربُ كأساً من خَمْرِ المحبوبِ
تُبْحِرْ في النشوةِ حتى فَجْرِ الفَجْرِ
***
لاحتْ في البُعْدِ مَطَاياهُمْ
كانتْ تَتَهادى فوقَ السَّيفِ الفاصِلِ
بين الظُّلماتِ وبينَ الفجرِ
صاحَ صديقٌ قَلِقُ النَّبْراتِ: تَعَجَّلْ
فالرَّكْبُ سيعبرُنَا بعدَ قليلٍ، فاصْعَدْ
قلتُ: انْتَظِروا
فالدَّرْبُ سَرابٌ
والزّادُ هَزِيلٌ، فانْتَظِروا
عَلِّي أَخطفُ بعضَ الخُبْزِ وزيتوناتٍ خُضْرٍ.
ضَحِكَ العَارِفُ،
وامْتَدَّتْ نحوَ الغَيْمِ خُطاه.